اكتشفت لجنة المال والموازنة، خلال جلساتها عن الحسابات المالية، أنه لم تكن هناك معايير واضحة للتعاطي مع دخول أموال الهبات وخروجها، إذ تبيّن أن هناك هبات مقدّمة إلى الدولة في هيئات رديفة (الهيئة العليا للإغاثة) لكنها لم تقيّد بكاملها في قسم الواردات من الموازنة، وبعضها لم ينفق وفق الأصول... الهبات هي جزء أساسي مما حصل وأدى إلى استحالة إبراء ذمة الحكومات المتعاقبة

 

شمول أية موازنة هو مبدأ مكرّس دستوريّاً، والهبات هي إيرادات موازنة يجب أن تقيّد في قسم الواردات من الموازنة وتخصّص لتغطية عجز الموازنة ما لم تكن لها وجهة إنفاق معيّنة وفقاً لإرادة الواهب فيفتح لها اعتماد في قسم النفقات من الموازنة وتخصّص حصراً لتغطية هذا الاعتماد.

عمدت الحكومة إلى تضمين مشروع قانون موازنة الدولة لعام 1999 النصّ التالي قبل إحالته على المجلس النيابيّ: «تطبّق في إنفاق اتّفاقيّات القروض الخارجيّة الجارية مع مختلف الإدارات والمؤسّسات العامّة والبلديّات الأحكام النظاميّة المعتمدة لدى الجهة المقرضة سواء أكان هذا الإنفاق من الجزء المحلّيّ أم من الجزء الأجنبيّ على أن تخضع لرقابة ديوان المحاسبة المؤخّرة».
وأتبعته في مشروع قانون موازنة عام 2000، وفي مشاريع قوانين الموازنات اللاحقة حتّى عام 2005، بالنصّ الآتي: «تطبّق في إنفاق اتّفاقيّات القروض والهبات الخارجيّة الجارية مع مختلف الإدارات والمؤسّسات العامّة والبلديّات الأحكام النظاميّة المعتمدة لدى الجهة المقرضة سواء أكان هذا الإنفاق من الجزء المحلّيّ أم من الجزء الأجنبيّ على أن تخضع لرقابة ديوان المحاسبة المؤخّرة».
لم يتنبّه المجلس النيابيّ لخطورة هذا النصّ الذي كان يصدّق بتصديق مشروع قانون الموازنة، واستغلّت الحكومة غموضه فحمّلته أكثر ممّا يحتمل لأنّ عبارة «إنفاق » الواردة في النصّ لا تعني الخروج على نصّ المادّة 52 من قانون المحاسبة العموميّة لجهة كون مجلس الوزراء المرجع الصالح لقبول الهبات، ولا إخراجها من كونها إيرادات موازنة، ولا فتح اعتمادات بقيمتها عندما تكون لها وجهة إنفاق معيّنة وفقاً لإرادة الواهب، كما أنّها لا تعني الخروج على أحكام المادّة 243 من قانون المحاسبة العموميّة التي تشير إلى أنه «يحظّر على الإدارات العامّة والبلديّات والمؤسّسات العامّة التابعة للدولة أو للبلديّات وسائر الأشخاص المعنويّين ذوي الصفة العموميّة فتح حسابات في المصارف الخاصّة أو فتح حساب خاصّ بها في مصرف لبنان».
وبموجب القانون 49/87 أعطيت الإدارات العامّة ذات الموازنات الملحقة والمؤسّسات العامّة والبلديّات وسائر الأشخاص المعنوييّن ذوي الصفة العموميّة، حق فتح حسابات جارية مستقلّة بهم في مصرف لبنان، فأجيز لكل من وزارة الاتّصالات (في ما يتعلّق بالاتّصالات فقط)، المديريّة اليانصيب الوطنيّ، المديريّة العامّة للحبوب والشمندر السكّريّ، فتح حسابات خاصّة بها لدى مصرف لبنان.
لكن الحكومات المتعاقبة تمادت في مخالفة أحكام القانون 49/87 المذكور وأجازت للوزارات، وحتّى لبعض الوحدات في الوزارات، وحتّى لموظفين في وزارات، فتح حسابات خاصّة بها وبهم لدى مصرف لبنان، حتّى أصبح لكلّ وزارة أكثر من حساب لدى هذا المصرف الذي كان يفترض بالقيّمين على إدارته أن يرفضوا فتح حسابات لديه بطريقة مخالفة لأحكام القانون، وهذا الأمر أدّى إلى تعدّد الحسابات وتعذّر توحيد نتائجها السنويّة.
وقد استمرّت الحكومات المتعاقبة منذ عام 2005 بتطبيق النصّ ذاته الوارد في قانون موازنة عام 2005، رغم عدم صدور قوانين موازنات بعد ذلك العام تجيز لها ذلك على اعتبار أنّ مفعول موادّ قانون موازنة ما ينتهي بانتهاء السنة الماليّة العائدة اليها هذه الموازنة. وبذلك يكون إنفاق الهبات الخارجيّة (والقروض بالتأكيد) التي قبلت بعد عام 2005 مخالفاً لأحكام المادّة 83 من الدستور ولأحكام المادّتين 51 و 52 من قانون المحاسبة العموميّة.
لقد تمادت الحكومات المتعاقبة في مخالفة نصّ المادّة 52 من قانون المحاسبة العموميّة، وفي مخالفة نصّ المادّة 243 من قانون المحاسبة العموميّة، وفي التوسع بمفهوم عبارة «إنفاق» التي يجري إدراجها في قوانين الموازنة منذ عام 2000 ( ...) فقبلت هبات مقدّمة إلى الدولة في هيئات رديفة (الهيئة العليا للإغاثة)، ولم تقيّدها بكاملها في قسم الواردات من الموازنة. فمن أصل هبات بقيمة أكثر من 130 مليار ليرة منحت للدولة خلال عام 2005 لم يقيّد في الموازنة ضمن الواردات المحصّلة سوى 15 مليون ليرة! وأودعتها في حسابات خاصّة لدى مصرف لبنان.
وقد بلغ مجموع الهبات المقدّمة إلى الدولة والتي صدرت مراسيم وقرارات وقوانين بها نحو 6 ٫ 080 ٫ 959 ٫ 347 ٫ 213 ليرة. وعلى سبيل المثال، هناك هبات عدة جرى قبولها في الهيئة العليا للإغاثة ومنها هبة من بنك بيبلوس بتاريخ 16/9/2007 بقيمة مليون دولار، وهبات من الدول والمؤسّسات المانحة لمعالجة آثار عدوان تمّوز 2006 بقيمة 1130 مليون دولار، فضلاً عن هبات قبلت لمصلحة مجلس الإنماء والإعمار، منها الهبات المستلمة خلال العامين 2002 و2003 (أنظر الجدول رقم 1).
ومن الهبات الصادرة بمراسيم ما هو منسّب، أي ما هو مدوّن في الموازنة على أنّه واردات سنداً لأحكام المادّة 52 من قانون المحاسبة العموميّة، ومنها ما هو غير منسّب، ولا سيّما الهبات الخارجيّة بعد عام 2000. لا بل إنّ هبة بقيمة 38 مليون يورو جرى قبولها بموجب المرسوم 1584 الصادر بتاريخ 30 تشرين الأوّل 1999 ، قد ألغي تنسيبها بموجب المرسوم 4143 الصادر بتاريخ 18 تشرين الأوّل 2000، أي بعد نحو سنة من تاريخ قبولها وتنسيبها (الجدول رقم 2 يفصّل الهبات المنسبّة وغير المنسبة).
ويشار إلى أنّ تنسيب الهبة بموجب مرسوم قبولها، أي قيدها في قسم الواردات من الموازنة، لا يعني تحصيلها حكماً وإدخالها في حساب الخزينة (الصندوق أو مصرف لبنان). لا بل إن تنسيب الهبة، وإدخالها في حساب الخزينة على أنّها واردات موازنة، لا يعني إنفاقها وفقاً للأصول، ممّا يوجب الدخول إلى حسابات كلّ هبة ومتابعتها منذ قيدها حتّى إنفاقها بكاملها، ولا سيّما إذا تمّ تحويلها إلى مجلس الإنماء والإعمار أو إلى إحدى الإدارات الرديفة. والهبة المقدّمة من الاتّحاد الأوروبيّ خلال عام 2000 خير دليل على ذلك.
مجموعة من المراسيم والقرارات العائدة لسنة 2005، والمتعلّقة بالهبات النقديّة والعينيّة التي قدّمها أشخاص أو حكومات أو مؤسّسات... إلى الدولة اللبنانيّة بصورة منح غير قابلة للرد إلى الجهة الواهبة.
ويتبيّن من المراسيم الصادرة بخصوص الهبات أنّ بعضها هو عبارة عن هبات نقديّة من دون أن ينصّ على تنسيب للنفقة المخصّصة لصرفها، وأنّ بعضها أيضاً يتضمّن التباساً حول الإدارة المستفيدة أو الجهة المخوّلة قبض هذه الهبات أو التصرّف بها... أما في ما خص القرارات المتعلّقة بالهبات، فقد تبيّن أنّ بعضاً من هذه القرارات لم تصدر المراسيم المقابلة له، والبعض الآخر لا يطابق المراسيم الصادرة على أساسه .
فمن أصل عشرين هبة صدرت مراسيم بها، هناك أربع منها جرى تنسيبها أي قيدها في الموازنة على أنّها واردات ونفقات، وأنّ من أصل الهبات الأربع التي جرى قيدها في واردات الموازنة لم تحصّل سوى هبة واحدة بقيمة 15,075,000 ليرة، أي ما يمثّل 5,36% من أصل الهبات المنسّبة التي صدرت مراسيم بها، ونسبة 0,01% من أصل مجموع الهبات الواردة إلى الدولة خلال عام 2005 والبالغة 130,373,198,550 ليرة.
وقد ردّت في قسم الواردات من مشروع قانون قطع حساب موازنة عام 2005 المنجز استناداً إلى البيانات الصادرة عن مديريّة الخزينة والمركز الإلكترونيّ في وزارة المال القيود التالية هبات داخليّة قيّدت على أنها إيرادات مقدّرة بقيمة 169,500,000 ليرة، لكن الإيرادات المحصلة بلغت صفراً، أما الهبات الخارجيّة فقد بلغت إيراداتها المقدّرة 96,853,860 ليرة، فيما الإيرادات المحصّلة بلغت 15,075,000 ليرة. هذا يعني أنه من أصل مبلغ 266,353,860 ليرة قيّد على أنّه إيرادات مقدّرة، أي صدرت مراسيم قبوله كهبات متضمّنة تنسيب الهبة، لم يحصّل سوى مبلغ 15,075,000 ليرة . فأين الرصيد؟
سبق أن بيّنّا أن قيمة الهبات التي قبلت في مجلس الوزراء بلغت 130,373,198,550 ليرة . فما كان مصير هذه الهبات التي لم يقيّد منها في حساب الخزينة سوى مبلغ 15,075,000 ليرة؟


بين يدي ديوان المحاسبة

أفاد ديوان المحاسبة في تقريره السنويّ لعام 2005 بأنّه «يقتضي التمييز بين الهبات التي يتولاّها مجلس الإنماء والإعمار ويمكن للديوان ممارسة الرقابة عليها من خلال رقابته المؤخّرة على حسابات المجلس، وبين الهبات التي يتولّى محتسب الماليّة المركزيّ مسك حساباتها وهي تظهر في حساب مهمّته ويمكن لديوان المحاسبة ممارسة الرقابة عليها من خلال رقابته المؤخّرة على حساب مهمّة محتسب الماليّة المركزيّ.
أما الهبات التي تتولاّها مباشرة الوزارات والإدارات المستفيدة ولا تظهر حساباتها في حسابات مجلس الإنماء والإعمار ولا في قيود محتسب الماليّة المركزيّ، تُفتَح لها وفقاً لقوانينها الخاصّة، حسابات خاصّة في مصرف لبنان خارج حساب الخزينة ذي الرقم 36 تتولّى إدارتها الجهة المستفيدة بالتنسيق مع الواهب».
وأكّد الديوان ضرورة «إخضاع الهبات المشار إليها لرقابة ديوان المحاسبة المؤخّرة وضرورة استصدار النصّوص التنظيمية اللازمة لتحديد آلية إرسال حساباتها والمستندات والمعلومات المتعلّقة بها إلى ديوان المحاسبة تمكيناً له من إجراء الرقابة التي أناطتها به قوانين الموازنات المتعاقبة».
أما نحن فنرى أن ديوان المحاسبة أغفل التطرّق إلى الهبات التي يتمّ قبولها في الهيئة العليا للإغاثة رغم كونها تشكّل معظم الهبات التي تقدّم إلى الدولة، كمل أن رقابته لم تمارس على الإطلاق فهو لم يمارس أيّ رقابة مؤخّرة على حسابات مجلس الإنماء والإعمار، ولم يمارس أي رقابة مؤخّرة على حسابات الهيئة العليا للإغاثة، ولم يمارس أي رقابة مؤخّرة على حسابات محتسب الماليّة المركزيّ منذ عام 1996، وحتّى بالنسبة إلى الحسابات السابقة لعام 1996 فإنّ رقابة الديوان لم تتطرّق إلى موضوع الهبات في قراراته القضائيّة التسعة الصادرة في شأن حسابات محتسب الماليّة المركزيّ العائدة للأعوام 1993-1996.
انّ معالجة موضوع الهبات بصورة جذريّة تقتضي العودة إلى الأصول، أي إلى قانون المحاسبة العموميّة، وتطبيق أحكام المادّة 52 منه بحذافيرها، والغاء القرارات المتّخذة في الهيئة العليا للإغاثة التي تخوّلها صلاحيّة قبول الهبات، فضلاً عن عدم القبول بتضمين أيّ قانون موازنة نصّاً يجيز إنفاق القروض والهبات الخارجيّة وفقاً لأحكام خاصّة مخالفة لأحكام قانون المحاسبة العموميّة.